الموقف الاول
عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عطاء فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما في بيتك شيء
؟ " قال : بلى ، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقعب نشرب فيه فقال : " ائتني بهما " ، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال : " من يشتري مني هذين
؟ " قال رجل : أنا آخذهما بدرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يزيد على درهم
؟ " مرتين أو ثلاثا ، فقال رجل : أنا آخذهما بدرهمين . فأعطاهما إياه ، فأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري ، وقال له : " اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوما فائتني به " فأتاه به ، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال : " اذهب فاحتطب وبع ، ولا أرينك خمسة عشر يوما " فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوبا ، وببعضها طعاما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا
خير لك من أن تجيء المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة
لا تصلح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع "(1) .
ومن دلائل الواقعية في هذه القصة :
ـ أن الحل جاء بسيطا واقعيا فهو من بيئة الرجل وفي متناول يده .
ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعالج مشكلة السائل بالمعونة الوقتية كما يفكر كثيرون .
ولم يعالجها بمجرد الوعظ والتنفير من المسألة كما يصنع آخرون .
ـ ولكنه أخذ بيده في حل مشكلة بنفسه وعلاجــها من واقعة بطريقة ناجحة (2).
ونحن لا نقول لكل فقير أو
متعطل عن العمل عليك بالاحتطاب كما يظن الجهلاء الذين يتصورون الدعوة
الإسلامية دعوة للرجوع إلى الوراء وركوب الجمال والحمير في زمن الطائرات
والسيارات . فهذه سذاجة في التفكير أو خبث في المقاصد ، ذلك أن الإسلام دين
واقعي يتعامل مع الواقع ولا يصطدم به ، ولا يرفضه إلا إذا كان حراما مضرا
بالدين والنفس والمجتمع . أما إذا كانت وسيلة مشروعة استدعتها ظروف الحياة
بتطورها المستمر فلا بأس بها ، والإسلام أول الداعين لها المتعاملين بها (3).
::الموقف الثاني ::
روى أبو أمامة أن غلاما شابا
أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا نبي الله أتأذن لي في الزنا ، فصاح
الناس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قربوه ، أدن " فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي : " أتحبه لأمك
؟ " قال : لا ، جعلني الله فداك ، قال : " كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم
، " أتحبه لإبنتك " قال : لا ، جعلني الله فداك ، قال : " كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم . " أتحبه لأختك " ، وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة ، وهو يقول في كل واحدة : لا ، جعلني الله فداك وهو صلى الله عليه وسلم يقول : " كذلك الناس لا يحبونه " فوضع رسول
ا
لله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال : " اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه ، وحصن فرجه
" . فلم يكن شيء أبغض إليه منه ، يعني الزنا
(4)
.
وهكذا نلمس عظمة المنهج الإسلامي في الحل والصلاح ، ونلمس قمة الواقعية ومنتهى الرحمة في هذا الحل النبوي لمشكلة هذا الشاب الي يتفجر جسده بالشهوة والرغبة في الزنا . فالنبي صلى الله عليه وسلم يخاطب في الشاب عقله ويثير فيه حميته ، ويرده إلى واقع الفطرة البشرية وطبيعة النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني . ويجعل من الشاب نفسه حكما في القضية ويجعله ينطق بلسانه الحكم العادل والرأي الصائب ، ليكون ذلك أدعى إلى الاقتناع والانقياد .
( هذا هو الإسلام ، وهذه هي واقعيته في كل مجالاته ، وفي كل أحواله وفي كل تكليفاته ، وفي كل حلوله . لا يكلف الناس شططا ، ولا يرهقهم من أمرهم عسرا ، ولا يجعل عليهم حرجا ، يحاول أن يرقى بهم ليصعدوا ويرتفعوا ، ولكنه لا يهملهم إذا هبطوا ، إنه يريدهم أصحاء ، أقوياء ، ولكنه إذا مرضوا عالجهم وساعدهم حتى يشفوا وينهضوا . إنه منهج الفطرة . منهج الله ، الذي يتعانق فيه الواقع والمثال